الحياة الأخلاقية للمسلم الواقعي
بهجة النفس والناس

السيد عباس نورالدين

إذا كانت الحياة الروحية عبارة عن التنعّم بما وراء هذه الدنيا أو بالروح الأعظم المحيط بكلّ العوالم، فإنّ الحياة الأخلاقية تتبلور في ظلّ التنعم والاستمتاع ببهجة النفس والناس.
والعنوان الأكبر للحياة الأخلاقية هو السلام؛ ففي ظلّ السلام يمكننا أن نكتشف الجمال الكامن في النفوس البشريّة ونتنعّم به؛ ومن هذه النفوس وأوّلها نفس كلّ واحدٍ منّا.
الذي يتمتّع بحسن الخلق هو سعيد مع نفسه وينعم بالطمأنينة والراحة والهدوء اللازم ليرى ما في هذا العالم من جمالٍ وكمال؛ وقد أشار الله لنا في كتابه العزيز إلى هذا المعنى الجميل في الآية 29 من سورة الزّمر، حيث قال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُون‏}.
إنّ رذائل الأخلاق هي التي تجلب لنا المشاكل والمنغّصات، وتجعل حياتنا ضنكًا وشقاء؛ وذلك لأنّها تدعو إلى المشاكسة والمناكفة؛ وهذا ما يجلب العداوات والنزاعات التي يتبعها الكثير من الآلام والأسقام. ومن أحكم قيمة السلام بينه وبين نفسه والتزم به أوّلًا، ثمّ فعل ذلك فيما بينه وبين الناس ثانيًا، استمتع بالكثير من بهجات النفوس وإشراقاتها، حتى لو كانت تلك النفوس بطبيعتها ميّالة إلى الشرّ والضرّ.
أوّل ما يفعله المسلم في جلب السلام الداخليّ لنفسه هو السيطرة على قوّتي الغضب والشهوة فيه. ففي حال جموحهما وطغيانهما تقع الأخطاء الباهظة؛ فيشغلنا ذلك عن الكثير من المتع والمنافع التي أعدّها الله لنا في ظلّ الحياة الاجتماعية والعشرة والروابط. ولهذا، كان التخاصم من أهم طرق تعذيب أهل الجحيم، كما قال عزّ من قائل: {إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّار}.[1] وما يصيب أهل النار من آلام التخاصم لعلّها أشدّ من أي ألم آخر. وليس هذا سوى تمثّل وتجسيد لما كانوا عليه في الدنيا. وإنّما يتضاعف عليهم العذاب لخلوّ النار عندئذٍ من الذين كانوا في الدنيا عوامل تخفيف وتلطيف، وهم المؤمنون الطيّبون المتخلّقون بحسن شمائل الأخلاق. وللسيطرة على قوّتي الغضب والشهوة، لا بدّ من انتهاج مسلكٍ خاصّ في الحياة؛ فما دمنا نعيش في أجواء الاستثارة، فمن الصعب أن نوفّق لضبط هاتين القوّتين. لذلك يلتفت المسلم إلى محرّكات الشهوة الكبرى والتي تؤدّي بالتبع إلى غلوّ القوّة الغضبية.
ومن أكبر عوامل استثارة الشهوة فوق الحدّ: عدم انتظام عاداتنا الغذائية وإفراطنا أو تفريطنا في الطعام والشراب. فكأنّ المعدة هنا هي الموقد الذي تغلي فيه هذه القوى وتفور.
إنّ تهييج الطعام والشراب لقوّة الشهوة، وما يتبعها من جموح الغضب، لا يكمن في كثرة الأكل والشرب فحسب، بل يتعدّاه إلى الاهتمام الزائد عن الحدّ بهذه الأمور. وهذا ما يظهر في أدبيات العصر بالتغنّي والتظاهر بحبّ الطعام الفلانيّ أو الشراب العلانيّ.
من الطبيعي واللازم أن يحافظ المرء على ذائقته، ومن الحماقة أن يتناول ما هو غير لذيذ؛ لكن أن يصبح الأكل والشراب متعة مطلوبة لذاتها لهو الانحراف الكبير عن جادة الإنسانية. ولهذا، يلتزم المسلم الواقعيّ بنظامٍ غذائيّ دقيق مبنيّ على قاعدة واحدة، وهي الالتزام بتوصيات الدين وإرشاداته؛ فيجعل معدته تابعة منقادة لإرادة الله كما جعل بصره وسمعه وجميع جوارحه كذلك.
وهكذا، تنتقل قوّة الشهوة وجنودها من تحت سلطان النفس المضطربة إلى سلطان الله الحقّ تعالى. فإذا اشتدّت قوّة غضبه يومًا، فلن يكون إلا في موارد الغضب لله.
يعلم المسلم أنّ الاندفاع للسيطرة على قوى النفس لا يقوم إلا على قاعدة الإيمان بالله واليوم الآخر؛ حيث يرى الحياة بالمنظار الأوسع وهو يؤمن بأنّ التمتّع في الدنيا لا ينبغي أن يكون على حساب الآخرة. فكلّما اشتدّ حضور الآخرة في حياته، سهُل عليه العمل على ضبط شهواته وغضبه.
والسلام مع الناس مبنيٌّ على عنصرٍ أساسيّ وهو التسامح والحلم؛ وهو الذي يظهر في العفو عن إساءات المسيئين إليه. وقد ضرب الله لنا مثلًا رائعًا في هذا الخُلُق العظيم في قصّة هابيل وقابيل المشهورة، حيث ظهرت هذه الصفة الحميدة في الأخ الواعي البصير حين قال: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَني‏ ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمين‏}.[2]
فالناس كلّهم بمنزلة الأخوة لنا، ما لم يعلنوا الحرب على الإسلام والمسلمين والمستضعفين.
ينطلق المسلم من مبدإٍ عظيم ينبع الحلم منه ويكتمل، وهو أنّ الناس خطّاؤون، تصدر منهم العثرات والزلّات، ولا يمكن استمالة قلوبهم واستدرار منافعهم إلّا بالتجاوز عن أخطائهم والصفح عن إساءاتهم. ويستمد هذا المسلم قوّة الصفح هذه من رغبته الشديدة وإلحاحه بأن يعفو الله عنه ويصفح، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى‏ وَالْمَساكينَ وَالْمُهاجِرينَ في‏ سَبيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحيم‏}.[3]
فأينما لقي المسلم إساءة من أخيه أو جاره تذكّر حقارة نفسه وكثرة ذنوبه وخطاياه وتقصيره مقابل ربّه، واستحضر شدّة الاضطرار والحاجة إلى عفو الله وغفرانه؛ فسعى لجلب ذلك بتجارة يسّرها الله له وذلك ببذل رأسمال عظيم كثير الربح والفائدة وهو العفو عمّن أساء إليه. ولأنّ الله لا يمكن أن يُزايد عليه أحد في كرمه، فمن المستحيل أن لا ينال أي مذنب عفو الله وهو يعفو عن الناس.
التنازل عن بعض الحقوق صعبٌ، لكن الأصعب منه بكثير هو أن لا تشملنا رحمة الله وعفوه يوم احتياجنا الكبير إليهما؛ فيؤاخذنا على التعدّي على حقّه في يوم لا ظلّ لنا إلّا ظلّه.
وبالطبع، إنّ من يرد العفو عن الناس والتجاوز عن إساءاتهم، لا يعتدي عليهم ولا يسيء إليهم.
إنّ الأسباب النفسية التي تحملنا على الاعتداء والإساءة عديدة؛ منها الحسد، ومنها العجب والكبر. ولذلك، يسعى المسلم الواقعيّ إلى التخلّص من هذه الرذائل الأخلاقية، ولو ببذل الكثير من الجهد والقيام بجهادٍ أكبر.. فهو يعمل على الإحسان والتفضّل على من تحسده نفسه وتنزعج من تنعّمه بأي كمال أو موهبة؛ وذلك لأنّه يعلم أنّ الحسد يدعو إلى إيذاء المحسود وإسقاط حيثيته وشأنيته؛ وكلّما انبرت عقدة الحسد في نفسه تجاه أي إنسان، أسرع إلى مدحه والثناء عليه وتوفير الخدمة له والكلام عنه وذكره بكل ما يمكن أن يعلي شأنه؛ وذلك لأنّه يعلم أنّ أفضل وسيلة لاقتلاع أمراض القلب من النفس هي العمل بخلافها ومعاندة دعواتها.
السلام الداخليّ مع النفس يتحقّق في ظلّ ضبط قوى هذه النفس وخضوعها لسلطانٍ حكيم هو العقل. والسلام مع الناس يحصل في ظلّ العفو والحلم والمسامحة، وليس في كفّ الأذى عنهم فحسب.
وإذا تحقّق هذا السلام الداخليّ انبعثت الطاقات الكامنة في النفس، وصار بإمكاننا أن نستمتع بكل ما خلقه الله تعالى لنا بأفضل صورة.
وإذا تحقّق السلام مع الناس ظهر الكثير من الخير والجمال الكامن فيهم.. ولهذا فإنّنا نقول في نهاية كل صلاة: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

[1]. سورة ص، الآية 64.

[2]. سورة المائدة، الآية 28.

[3]. سورة النور، الآية 22.