المنهاج السليم في تدريس الدين

الأصول والقواعد

السيد عباس نورالدين

للنصوص الدينية وقعٌ عميق وبنّاء في النفوس، سواء كانت من القرآن الكريم وأحاديث المعصومين، أو ما صدر من علماء الدين الذين ذابوا في هذين الثقلين. وبالنسبة لنا لن نجد ما هو أبلغ وأكثر تأثيرًا من هذا التراث العظيم على مستوى ترسيخ الفضيلة والاندفاع نحو الكمال وصيانة النفوس من آفات هذا العصر.
وبمقدار ما يقوى حضور هذه النصوص كمًّا ونوعًا في المراحل العمرية الأولى، فالمتوقع على صعيد النتائج سيكون كبيرًا ومدهشًا. وأحد أهم وسائل تقوية هذا الحضور يكمن في اعتماد منهجية تربوية سليمة في تدريس الدين.
إنّنا نتوقّع من الشاب المسلم أن يكون قد قرأ (بتوجّه واستفهام) كتاب الله المجيد كلّه، وكذلك كتابي نهج البلاغة والصحيفة السجادية، قبل أن يبلغ الثامنة عشر؛ كما نتوقّع أن يكون قد اطّلع على أهم المقتطفات والنماذج المكتوبة لكبار الشخصيات الإسلامية، التي ساهمت في رفد الفكر العالمي بتراثٍ غنيّ وعميق. هذا بالإضافة إلى مطالعة ودراسة وتحليل عدد كبير من الأحاديث الشريفة، التي تدور حول أهم قضايا الحياة وبناء الذات. وكلّما جرى استيعاب هذا الكم ضمن آلية منهجية، متناسبة مع التطوّر الفكريّ للإنسان ودوره الحضاريّ، وبناءً على الأسس العلمية المتينة، كان الناتج أعلى وأقوى.
والأصل التربويّ الأوّل في دراسة الدين الإسلاميّ يكمن في التأكيد على عنصر التكامل المعرفيّ، واعتبار آراء العلماء المفسّرين والباحثين تمثّل السعي الحثيث للوصول إلى حقيقة الدين وحاق تعاليمه؛ وكذلك يكمن في التمييز بين المعصوم وغير المعصوم، وكيفية الوصول إلى المعصوم من النص، ليتعزّز مبدأ الاجتهاد والسعي بدل التلقين والتقليد في غير مورده.
لقد سعى علماء كبار من أجل بيان حقائق الدين وتعاليمه، والبعض من هؤلاء سعوا لاكتشاف الأطروحة الدينية للحياة والمجتمع والمصير وعرضها (وهم الأكثر تميّزًا). في حين أنّ البعض جعل من رفد العلوم التي نشأت في ظلّ الدين هدفًا له.
إنّ تقدير العلماء واحترام جهودهم وتعظيم آرائهم لا يستلزم إضفاء أي نوع من العصمة على تراثهم؛ بل ينبغي التأكيد على كون هذا كلّه يأتي ضمن مساعٍ شريفة ومخلصة، كانت بمعظمها تريد اكتشاف الأفكار الدينيّة وعرضها. وقد جرى ذلك كلّه في مسارات زمانيّة وبيئيّة، ذات ظروف خاصّة مؤثّرة ومرتبطة بسياقاتها الطبيعيّة. ومن الممكن أن يتعمّق فهمنا للدين وأن تزداد اكتشافاتنا المعرفية، إذا بنينا على هذا التراث وانطلقنا منه ناقدين ومجتهدين ومحلّلين ومتفكّرين.
إنّ النجاح الحقيقيّ في عرض مادّة الدين، إنّما يتحقّق فيما إذا جعلنا "العلمائيّة" هدفًا للطالب، واعتبار علماء الدين قدوة واقعيّة، ليس في أفكارهم، بل في جهدهم ومساعيهم وحركتهم لمعرفة الدين. وأكبر الأخطاء التي تُرتكب في هذا المجال التربويّ هو أن نرسّخ الشخصية المقلّدة أو المتلقية، واعتبار عملية تلقين معارف العلماء، وحتى نصوص الثقلين كافية لتحقيق الأهداف المطلوبة.
إنّ ما يمنعنا من ترسيخ هذه القدوة يرجع بالدرجة الأولى إلى عدم امتلاك تصوّر شامل ومنسجم للتراث الديني؛ حيث نخلط بين الأبحاث الاستدلالية والجدلية (التي تستوعب القسم الأعظم من هذا التراث) والمضامين والأفكار التي يتم عرضها. كما إنّ أحد الموانع الكبرى هنا ينشأ من عدم التمييز بين العلوم الموصوفة بالدينية والدين ذاته؛ حيث إن هذه العلوم، في أحسن الأحوال، لم تكن سوى مناهج وطرق للوصول إلى حقائق الدين. ويجب أن يتعرّف الطالب إلى هذه العلوم بهذا الاعتبار، ويتعرّف إلى كيفية استخدامها ونقد مناهجها (كما يحصل في دراسة أصول الفقه في أحيانٍ كثيرة).
إنّ تحقيق الأنس والارتباط المعرفيّ والفكريّ بالتراث الدينيّ ـ بعيدًا عن الدراسات الاستدلالية والجدلية ـ لهو أمرٌ ممكنٌ جدًّا في المراحل المدرسية والعمرية المبكرة. كما إنّ إتقان مناهج العلوم المقدّماتية (فلسفة، منطق، أصول، لغة..) ليس بالأمر البعيد عن متناول قدرة أبناء هذه المراحل؛ وإن كان ـ ولا شك ـ يتطلّب المزيد من الأعمال الإعدادية المرتبطة بتيسير المناهج وتسهيلها.
كما إنّ بلورة الأهداف الاجتماعية للدين، والعمل على ترسيخها في شخصية التلميذ سيشكّل أكبر الدوافع لدراسة الدين، نظرًا لما يحقّقه هذا الأمر على صعيد تعميق المسؤولية تجاه المجتمع والبشرية والأرض والدور الاستخلافيّ للإنسان.
يجب أن يصبح نشر الدين وتبليغه والدعوة إليه هدفًا أسمى لكلّ طالب، وإن اختار مهنة الهندسة أو الطب. ويجب أن يتعرّف إلى كيفية جعل فنونه وإبداعاته المختلفة منصبّة في هذا الهدف السامي؛ بالإضافة إلى التعرّف إلى الوسائل والأساليب التبليغية المختلفة، التي يمكنه استعمالها والاستفادة منها للتواصل مع المسلمين وغير المسلمين. ويجب ترسيخ مبدأ التفرّغ للدين وجعله الهمّ الأكبر في الحياة، دون أن يتعارض ذلك مع المسؤوليات الحياتية اليومية.
وينبغي أن يكون استيعاب التجارب الدينية المختلفة (وخصوصًا في المجتمعات المسلمة) وتطوّراتها ومآلاتها وتراثاتها جزءًا أساسيًّا من دراسة الدين. فمن المهم أن يتعرّف التلميذ إلى طبيعة التديّن في مجتمعات الجزيرة العربيّة، وكيف وصل إلى ما وصل إليه اليوم، مثلما يتعرّف إلى وضعية هذا الالتزام الديني والتفاعل مع تراث الإسلام في مجتمعه وبلده. وينبغي أن نمكّن التلميذ من دراسة أوضاع الإسلام في المجتمعات الغربية، التي تدعم كل أشكال محاربة الإسلام ومعاداته واستعمار الشعوب المؤمنة به.
إنّ مستقبل العالم هو مستقبل حكومة الدين، ويوم الدين، الذي هو يوم الله تعالى، لأنّه مالك يوم الدين. وإنّ الوعد الإلهيّ يؤكّد على ظهور الإسلام والنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) على الدين كلّه. ومن المهم في هذا المجال أن يتّجه التعليم الدينيّ نحو اكتشاف المسار الصحيح الذي سيوصل البشرية إلى هذا الغد المشرق.