كيف نعرف الله حقًّا؟
السيد عباس نورالدين
مؤلف كتاب إشراقات الروح
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: "الْمَعْرِفَةُ صُنْعُ مَنْ هِيَ؟ قَالَ: "مِنْ صُنْعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ لِلْعِبَادِ فِيهَا صُنْعٌ".[1]
جميع الذين يؤمنون بإله العالم وخالقه يعتقدون بأنّه يتجلّى لعباده بنحوٍ ما وأنّه يعرّفهم إلى نفسه. التجلي هو التعرّف. وسواء وصل الناس إلى هذه العقيدة عن طريق العقل والفكر أو عن طريق النقل (أو الشرع باصطلاح العرفاء)، فإنّه ما من شك بأنّ هذا الإله قادر على التعرُّف إلى خلقه، وأنّه لن يكون من هو أفضل منه في هذا التعريف.
بعض الناس، وخصوصًا أتباع الفلسفة الرسمية قد يغفلون عن هذه الحقيقة التي كانوا قد أثبتوها سابقًا في أبحاثهم. ففي غمرة هذه الغفلة تجدهم لا يبحثون عن طرق الله وأساليبه في تعريف نفسه إلى خلقه. هذا نقصٌ فادح وعيبٌ كبير في أي مدرسة أو مذهب يتحدث عن معرفة الله تعالى.
لو كان الباحثون قد بذلوا جزءًا من وقتهم العلمي في دراسة هذه القضية لتغيّر وجه المعارف الإلهية إلى الأبد. لكنّ الإصرار على الاعتماد التام على عقولنا للوصول إلى هذه المعرفة أدى إلى ما يُشبه انسداد أبوابها. كان يُفترض أن ننطلق من هذه الحقيقة الثابتة لكي يُعاد النظر في هذه المعرفة بصورةٍ أعمق. لو حصل ذلك في كلّ مكان لشهدنا ما يُشبه الانفجار الكوني في هذا المجال.
كان يُفترض أن يقوم صرح معرفة الله على الإيمان بأنّ الله تعالى قد كتب على نفسه أن يتجلى لخلقه ويعرّفهم إلى نفسه بما يتناسب مع سر خلقهم.. تحديد مستوى هذه المعرفة لا يقل أهمية عن فتح آفاقها أيضًا. إنّهما خطان يسيران جنبًا إلى جنب؛ حيث يجب منع العقول عن التمادي في الوقت الذي تتم الدعوة إلى تجاوز إمكاناتها!
ما يحصل في واقع الأمر أنّ كل ما نعرفه عن الله تعالى هو منه، لكن بعضه يكون من باب الحجب. أجل، يحتجب الله عن خلقه، وبعض الاحتجاب عقاب. قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}.[2] إن أراد الله تعالى بعبدٍ خيرًا فإنّه يفتح قلبه على معرفته، فلا يكون بينه وبين عبده حجاب الإبعاد.
إنّ إصرارنا على أن نتعرف على الله بعقولنا يستبطن رعونة فاضحة؛ وهي تتعارض تمامًا مع اعتقادنا بأنّ هذه المعرفة هي شأن الله تعالى. المقصود من العقول هنا ليس ما يستقبل من تجليات الرب، بل ما يعتمد على الفكر والمقدمات والحركة الفكرية. والرعونة هنا ناشئة من الاعتماد على ذواتنا والثقة بأنفسنا. هذا هو أبعد شيء عما يمكن أن يوصلنا إلى الله.
كيف يمكن لنا أن نصل إلى الله بما هو مانع من الارتباط به. مع الله يُفترض أن نتخلى عن كل شيء؛ أو بعبارةٍ أدق أن نلتفت إلى حقيقة عجزنا. العجز ليس فقط في حمل الأثقال، العجز عن المعرفة هو أول العجز. لعل هذا ما يذكّرنا بكلام الإمام زين العابدين عليه السلام في مناجاته: "ولَم تجعلْ للخَلْقِ طريقًا إلى معرِفَتِكَ إلا بالعَجْزِ عن معرِفَتِكَ".
هنا يأتي السؤال حول كيفية ممارسة هذا العجز أو معايشته. قد نتصور للوهلة الأولى أنّه علينا أن نتوقف عن الاهتمام بهذه القضية ونكل الأمر إلى الله. حسنًا، قد يحمل هذا الكلام بعض الصحة. لكن لا ينبغي أن ننسى بأنّ الله تعالى لا يدعنا وشأننا، بل هو مهتم لأمرنا وسيتفرغ لنا جميعًا.
انظروا إلى الآيات التي تستحضر قضية وجود الله ومجيئه. إنّها أكبر قضية على الإطلاق. لا يمكن أن يكون الله مهملًا لأمرٍ سيكون له هذا الشأن يوم الدين. هذا يعني أنّ حياتنا كلها تدور حول هذه القضية، كل ما في الأمر أننا ننظر إليها من زاوية خاطئة.
أجل إنّ الله تعالى يتجلى لنا في كل لحظة وفي كل آن. لنقل إنّه ما من قضية في حياتنا إلا ولله تعالى فيها حضور. نُعبر عن ذلك بالرسائل الإلهية المحمولة على أجنحة الأحداث والوقائع. ما علينا سوى أن ننظر مرة أخرى، وسنجد أنّ كل شيء يحكي عن الله.
فالسؤال في الواقع هو: كيف نجعل حياتنا حالة دائمة من تلقي التجليات واستقبال الواردات لنزداد بذلك معرفة به؟
إنّ تصوُّرنا بأنّ الله تعالى لا يُعرف إلا في دروس العقيدة والفلسفة وعلى ألسن العلماء هو الذي حجبنا عن ملاحظة شدة حضوره الذي هو أساس المعرفة.
لا شك بأنّنا نحتاج إلى المفاهيم الكلية إن أردنا أن نتواصل فيما بيننا. لكن هذه الكليات هي أبعد ما يكون عن الموجود الشخصي الحاضر العيني. إنّ إصرارنا على التعامل مع الله والتواصل معه عبر الأفكار يشبه أن يصر المرء على مناداة ابن خالته عند لقائه بقوله: يا ابن المرأة التي هي أخت أمي! العلاقة شخصية بامتياز ولا أحد يستعمل المفاهيم الكلية في العلاقات الشخصية. يحصل هذا كثيرًا بيننا وبين الله دون أن نشعر، لكنّنا لا نشعر أيضًا أنّنا بذلك نحتجب عن الله تعالى. إصرارنا على تحويل كل ما يَردنا منه تعالى إلى مفاهيم كلية هو الذي يُضعف هذه العلاقة الشخصية.
إيجابية هذه المفاهيم الكلية كما قلنا في بداية الحديث هي في أنّها تثبت كون الله موجودًا شخصيًّا حاضرًا ناظرًا ومحيطًا ومدبرًا لكل صغير وكبير. يُفترض أن ننطلق من هنا لا أن نبقى عالقين هنا.
يُقال بأنّ وجود الأنبياء ومعهم الكتب السماوية كان أفضل وسيلة إلهية للتعرّف على الله. هؤلاء لم يسلكوا سبيل الفلسفة وإن كان فيهم فلسفة. كانوا في الواقع أفضل مظهر لله وأعظم تجلٍّ لحضوره، وقد قدّموا تجربة رائعة عن هذه العلاقة الشخصية القريبة. تحدّثوا كثيرًا عن الله، لكنّ العقل الفلسفي التقليدي عاد ليحد من تأثيرهم عبر سلوكه نهج التأويل. صار كلُّ حدثٍ شخصي مؤوّلًا، ليوضع في بعض الخانات الكلية.
كانت النزاعات الفلسفية، سواء ما دار منها حول تراث اليونان أو حول علم الكلام، هي التي تسوق الناس في مجال معرفة الله. كان الله حاضرًا بشخصه وأصرّ هؤلاء على إبعاده إلى ما وراء السماء. بعضهم قبل بأنّه إله في السماء، لكنّهم استصعبوا أن يكون إلهًا في الأرض، لأنّ هذا سيعني أنّه يتجلى في عالم المادة والصورة. والعقل يحيل ذلك! أضحى العقل هنا حجابًا سميكًا إلى الدرجة التي انعدم معها الشهود. وأضحى الشهود بعدها قضية للنقاش. وجب على أهل الشهود أن يستدلوا على مشاهداتهم لأنّها نادرة.
كلما استبعدنا حضور الله في حياتنا فسحنا المجال للشيطان لكي يعبث بإدراكاتنا. حين تستبعد أن ترى الله في شيء، فمن الطبيعي أن يصبح ما تراه ممتزجًا بإلقاءات الشيطان. هذه هي بداية الشيطنة.
في المقابل حين نؤمن بما يُنسب إلى سيد العارفين وإمام المتألهين من قوله: "ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قبله وبعده ومعه وفيه" فهذا يعني أنّنا بالحد الأدنى سنبحث عن الله في كل شيء. فلنبدأ من الأشياء الكبرى ذات التأثير العميق أو المصيري في حياتنا. حتمًا سنجده هناك. يُذكرنا الله تعالى بأنّ عاقبة الذين كفروا أنهم سيجدون الله؛ فكيف بالذين آمنوا؟!
{وَالَّذينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ووَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَريعُ الْحِساب}.[3]
[1]. التوحيد، ص 410.
[2]. سورة المطففين، الآية 15.
[3]. سورة النور، الآية 39.
الله في العرفان
لمن يحب أن يتعمق في معرفة الله ويسبر أغوار الحقائق الإلهية. كتاب يختصر المعارف العرفانية العميقة التي تُعد آخر ما وصل إليه الفكر البشري في مجال معرفة الله وصفاته وشؤوناته، ويتعرّض لمعاني الاسم الأعظم والمقامات الإلهية والاسم المستأثر الذي حارت بشأنه عقول الخلائق. ويطرح طبيعة العرفان والشهود وما يميز هذه المدرسة عن غيرها من مدارس الإلهيات.وقد استفاد الكاتب من أهم ما كتبه الإمام الخميني وذكره في القضايا المذكورة وتعرّض لذلك بالشرح والتفصيل. الله في العرفان الكاتب: السيد عباس نورالدين الناشر: بيت الكاتبحجم الكتاب: 14.5*21.5غلاف ورقي: 272 صفحةالطبعة الأولى، 2014مالسعر: 8$للحصول على الكتاب خارج لبنان يمكنكم شراؤه عبر موقع جملون بالضغط على الرابط التالي:
سفر إلى الملكوت
المبادئ الأساسيّة لبناء حياة معنويّة رائعة.كتاب يتحدّى تفكيرنا ويحثّنا على إعادة النظر بما كنا نعتبره من المسلّمات أو الأمور التي لا تحتاج إلى تعمّق وتدبّر. سفر إلى الملكوت الكاتب: السيد عباس نورالدينالناشر: بيت الكاتبحجم الكتاب: 14*21غلاف ورقي: 406 صفحاتالطبعة الرابعة، 2017مالسعر: 10$ تعرّف أكثر إلى الكتاب من خلال الكاتب يمكنكم شراء الكتاب عبر موقع جملون على الرابط التالي:
إشراقات الروح
لقاء الله هو الغاية القصوى من حركة الكائنات. لقاء الله هو الوجه الأبرز للمعاد الذي يعني العود إلى المبدأ. لقاء الله هو الحقيقة الكبرى التي ستتجلّى يوم القيامة.لقاء الله هو الهدف الأسمى لسير السالكين ورحلة العابدين ووجود المسلمين.فكيف سيكون هذا اللقاء؟ وكيف ينبغي أن نستعد له؟ إشراقات الروح الكاتب: السيد عباس نورالدين الناشر: بيت الكاتب حجم الكتاب: 14*21غلاف ورقي: 160 صفحة الطبعة الأولى، 2019مISBN: 978-614-474-036-1 السعر: 10$
قضيّة الله بين الماضي والحاضر.. كيف استطاع الشيطان أن يحرفنا عن أعظم قضايا الحياة؟
حين نتأمّل في الآيات الكثيرة التي تحدّثت عن حركة الأنبياء ودعوتهم ومواجهاتهم للطواغيت، نلاحظ بصورة واضحة كيف كان تجلّي قضية الله وظهورها في خطاباتهم. وقد استطاع هؤلاء الأولياء الربّانيّون أن يجعلوا هذه القضية على رأس قضايا الصراع والمواجهة أينما كانوا، فأحرجوا بها أعداءهم، الذين كان همّهم الأكبر ترسيخ زعاماتهم والتحكّم بمصائر الشعوب.
أكبر فتنة يواجهها الإيمان.. كيف يفسر المؤمنون حضور الله في الحياة؟
ينقسم المؤمنون بالله في هذا العالم إلى فئتين: فئة ترى أنّ الله سبحانه قد وضعنا في هذا العالم ليمتحن صبرنا في مواجهة أنواع المصائب والبلاءات؛ وفئة ترى أنّ لهذا العالم مستقبلًا واعدًا يجب أن نتحرّك باتجاهه من خلال السعي الجهادي في سبيل الله، والذي يُفترض أن يتكلّل بالنصر والعاقبة الجميلة...الاختلاف الجوهري بينهما يدور حول فهم كل طائفة لكيفية تدبير الله لهذا العالم
أعظم التكاليف والواجبات.. هناك الكثير ممّا يمكن أن يُقال حول علاقتنا بالله تعالى
أكبر مسؤولية في حياتنا هي تلك المرتبطة بعلاقتنا بالله تعالى. فكلّ المسؤوليات الأخرى تنبع منها أو تؤدّي إليها. فهو سبحانه المقصود النهائي والغاية القصوى من وراء كل فعل وتحرّك وسير في الوجود، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُور}.[1]ولكي ننجح في هذه المسؤولية ينبغي أن تصبح عملًا واعيًا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. هناك حيث يكون كل وجودنا مشاركًا في تحمّلها والقيام بها. ونقصان الوعي هنا مثل عدم وجوده؛ وكلاهما لا يؤدّيان إلى أي نتيجة طيّبة في هذه العلاقة.. ولو قيل أنّ الوصول إلى الوعي التامّ أو الوعي الكلّيّ هو الهدف من وراء كل عمل أو عبادة نؤدّيها لله، لما كان في هذا القول مبالغة.
5- كيف تحصل معرفة الله؟
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}، إذا كان الهدف من خلق العوالم كلها وخلق الإنسان وبعث الأنبياء ونزول الرسالات هو مرفة الله، فكيف تحصل هذه المعرفة؟
1-الألوهيّة: البوابة الأوسع لمعرفة الله
يمكن أن نتعرّف إلى الله من خلال صفات عامّة أو خاصّة مثل الخالقيّة أو القدرة أو العلم... ولكن لو أردنا أن نعرف الله حقّا علينا أن نبدأ بمعرفة معنى الألوهيّة.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...