الذكاء الاجتماعيّ بين التكيّف والنجاح

ما هي أهم قواعد الحياة الاجتماعيّة السليمة؟

السيد عباس نورالدين

للحياة الاجتماعية تأثيرات مهمّة على حياة الإنسان؛ فقد تجلب له الكثير من الفرح والسعادة أو تتسبّب له بالكثير من الآلام والعذابات. وبحسب الرؤية الإسلاميّة للوجود، فإنّ للاختيار البشريّ الدور الأكبر في تحديد النتائج والآثار. لهذا، يمكن البحث عن عوامل السعادة الاجتماعية في التعاليم الإسلاميّة واكتشاف الكثير من الحكم الرّائعة في هذا المجال.
وأوّل ما ينبغي الالتفات إليه هو تحديد النظرة الصحيحة حول حكمة وجود مثل هذه الحياة، فيقال لماذا اضطرّنا الله تعالى إلى التواجد في بيئة اجتماعيّة؟ ولماذا احتاج الإنسان إلى غيره لتأمين الكثير من منافعه؟
والجواب هو أنّ التفاعل مع الناس من شأنه أن يكشف للإنسان الكثير ممّا لا يمكنه أن يتعرّف إليه عن نفسه، فيما لو كان يعيش بمفرده. ولأنّ معرفة الله التي هي الغاية القصوى من الخلق لا تتحقّق إلا بمعرفة النفس، فإنّ التفاعل مع الآخرين له مدخلية كبيرة في تحقيق هذا الهدف الأسمى.
ولأجل أن يحصل هذا التفاعل ضمن مسار تكامليّ، جعل الله الإنسان محتاجًا إلى غيره، سواء في أصل الوجود، مثل الوالدين، أو في استمرار الوجود مثل الزواج والأسرة. وفي ظلّ هذين الاحتياجين تبرز الاحتياجات الأخرى، التي لا تُعد ولا تُحصى، ويبرز معها نظامٌ تكوينيّ هو بمثابة البنية التحتية للنظام الاجتماعيّ. فمن تحرّك تحرّكًا طبيعيًّا مع حاجاته التكوينيّة (الوجود والبقاء) فسوف يتعرّف حكمًا على النظام الاجتماعيّ ومتطلّباته.
وبعبارةٍ أخرى، إن انسجامنا مع حاجاتنا الطبيعية التكوينيّة يجعلنا منسجمين مع النظام الاجتماعيّ، وحين يختل أي واحد من هذين النظامين فسوف يختل النظام الآخر حتمًا.
وأوّل خطوة في هذا المجال هي أن ينتبه الإنسان إلى عظمة الوجود والحياة، فيدرك حينها عظمة وجود الأب والأم، اللذان بواسطتهما أوجده الله تعالى ومنحه هذه النعمة التي هي أساس كلّ النعم. ولا شك بأنّ أي خلل في نظرتنا إلى الحياة الاجتماعية يرجع إلى خلل في نظرتنا إلى الوالدين، الأمر الذي بدوره يرجع إلى سوء تقديرنا لنعمة الوجود.
إنّ شعورنا بعظمة وقيمة وجودنا وحياتنا (بمعزل عن نوعيّتها وتفاصيلها) هو أساس لكلّ ما نبنيه لاحقًا. وحين نستشعر قيمة الوالدين، فهذا يجرّنا إلى الشعور بقيمة الأسرة التي تكون جزءًا لا يتجزّأ من الحياة الاجتماعية.
فالحياة الاجتماعية تدور حول الأسرة، وللأسرة دورٌ أساسيّ في تحقيق أهداف الحياة الاجتماعية. وهذه الأهداف تتمحور حول عمارة الأرض وإصلاحها وتبديلها لتكون منصّة عروجنا إلى السّماوات العلا ومنها إلى جنّة الخلد وجنّة الله تعالى.
حين نؤمن أنّ لحياتنا الاجتماعية وتفاعلنا الإيجابيّ مع الآخرين هدفًا ساميًا، فسوف نتعامل معها بروح مفعمة بالنشاط والأمل. وهذا هو أحد أهم أسرار النجاح والسعادة. فاعتقادنا بأنّ الآخرين يشكّلون عاملًا جوهريًّا في سعادتنا ـ بمعزل عن تعاملهم معنا ـ يدفعنا للعمل البنّاء والسعي الحثيث. وفي ظلّ هذا السعي تتفعّل طاقاتنا الكامنة وتخرج من الكمون إلى التحقّق. وحين نشعر بقوّة الله فينا من خلال الشعور بالطّاقة الهائلة التي تظهر جرّاء هذا السعي، فإنّ سعادة كبيرة ستغمرنا. فلا شيء أشدّ على الإنسان من شعوره بالضعف والهوان.
إنّ وجود المجتمعات المعادية أو وجود الأشخاص الأشرار أو الذين يسيئون إلينا بنحوٍ ما، كل هذا يُعدّ جزءًا مهمًّا من عوامل تكاملنا. فلا ننسى أنّ مقام الشهادة الذي هو أحد أرفع مقامات الإنسانية إنّما يحصل بسبب قيام هؤلاء الأشرار بعملية القتل. كما أنّ السيطرة على الغضب الذي هو أحد أسباب خمود نار جهنّم، إنّما يحصل في ظلّ التفاعل مع الناس. فكيف لنا أن نغضب ما لم يكن هناك من يستثير غضبنا؟ وأنّى لنا أن نسيطر على غضبنا إن لم نعرف أنّنا نغضب؟!
فالناس يخرجون مكامن نفوسنا، وهكذا يمكن لنا أن نجاهدها ونفوز بالجنّة والرضوان.
وإنّ الكثير من الشهوات تشتعل جرّاء هذا التفاعل الاجتماعيّ؛ فإذا تمكّن الإنسان من ضبط شهواته المختلفة هنا، فسوف يكون له مقام تغبطه عليه الملائكة.
لا ننسى أنّ الله تعالى يباهي ملائكته بمثل هذا المخلوق الذي يبقى صابرًا أو راضيًا رغم كل هذه المتاعب والمصاعب، التي سيلاقيها في هذا المعترك الكبير.
وباختصار، إنّ تصحيح نظرتنا إلى الحياة الاجتماعية وإدراك حكمتها كفيل بهدايتنا في أصعب منعطفاتها وابتلاءاتها. ولا يمكن أن نصحّح هذه النظرة ما لم نبدأ من النقطة الصحيحة وهي معرفة الله تعالى.
المؤمن يعلم أنّ الله تعالى شاء أن تكون هذه الحياة، وهو يريدنا أن نتعامل معها بإيجابية ونسعى فيها لبناء مجتمعٍ فاضل يكون أرضية لكلّ إصلاح كونيّ وعالميّ. ولأجل ذلك ينبغي أن نبدأ من اللبنة الأساسيّة والنواة الأولى وهي الأسرة.
إنّ اعتزازنا بالأسرة، ونجاحنا في برّ الوالدين، وسعينا لتكوين أسرة مثاليّة، يجعلنا نفهم الكثير من أسرار الحياة الاجتماعيّة، بالإضافة إلى هداية مسيرتنا في التعامل مع الناس. فعلى سبيل المثال، إن كنت بصدد تكوين أسرة متماسكة فسوف تبحث عن الزوج الذي يتمتّع بصفات أخلاقية ونفسيّة مناسبة، ولن تسقط في فخ إغراء الجمال والمال والشهرة. ويا ليتك تعلم كم لهذه الروحية من آثار رائعة على صعيد علاقاتك كلّها!
فالكثير من المشاكل الاجتماعية ناجم من رغبتنا في الحصول على الزوج (أي الزوجة كذلك) الجذّاب أو صاحب المال الكثير. والكثير من هذه المشاكل يأتي من تعاملنا المادّيّ والشهوانيّ والأنانيّ مع الآخرين.
وحين يتسبّب لنا بعض الناس السيّئين بالمشاكل، فإنّ نظرتنا الإيجابيّة تجاههم تكون كفيلة بإبعاد الكثير من الأذى عنّا، إن لم تكن عاملًا كبيرًا في تغييرهم. كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "احْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِك‏". [نهج البلاغة، ص 501]