أكبر تحديات التربية الفطرية
هل سمعتم عن الوهم؟
السيد عباس نورالدين

ترتبط الفطرة بكل أمر إنساني ومعنويّ وروحيّ؛ فهي تتعلق بتلك الأشياء التي تفوق عالم المادة والبدن وتطلبها.. ولهذا، من الطبيعي أن يحصل بينها وبين الميول التي ترتبط بشهوات الجسد نوع من التضاد والتعارض.
من الضروري لكل مربٍّ ومرشد أن يميّز بين الحاجات الجسمانية والحاجات الفطرية. فجانب مهم من التربية يدور حول معالجة ذلك التضاد والتوفيق بين هذا التعارض.
ترتبط الحاجات الجسمانية بثلاثة أمور أساسية هي: سلامة الجسد وتوازنه، وقوّته.
أمّا الحاجات الفطرية فهي التي ترتبط بالكمال الحقيقي للنفس.
حين لا نؤمّن للجسد حاجاته الأساسية، فإنّه يبث مجموعة من الإشارات التي تبعث على الخوف، لأنّ هذه الإشارات ترتبط بفناء الجسد وموته؛ مثل إشارات ألم الجوع والمرض والضعف والهزال. وحين نسدّ هذه الحاجات، ينتفي الألم، فنشعر بالراحة واللذة والسعادة؛ سعادة البقاء والحياة.
حين نجوع، نتألم من الهزال والضعف الذي يطال حواسنا وأعضاءنا، فنندفع لتناول الطعام؛ وبذلك تتأمّن القوة اللازمة للنشاط والتفاعل والحركة. أمّا إذا أفرطنا بتناول الطعام، فسوف نُصاب بالبطنة؛ ومع البطنة يأتي الألم والكثير من المشاكل الصحية التي تؤدي إلى أمراض فتاكة. لهذا، يجب علينا تأمين التوازن لأبداننا أيضًا. وهكذا، يكون الدافع الأكبر لتأمين حاجات الأبدان هو إزالة الألم؛ ومع زوال الألم تأتي اللذة.
إنّ الالتذاذ أمرٌ جميل وهو مطلوبٌ بذاته. وكلّما زاد الالتذاذ صار أكثر مطلوبية. وحين لا يختبر الإنسان إلّا نوعًا واحدًا من اللذة أو سببًا واحدًا يؤدي إليها، فإنّ هذا يصبح هدفه الوحيد ومطلوبه الفريد في هذه الحياة. فإذا لم يجرّب أبناؤنا سوى اللذات الناشئة من تأمين الحاجات الجسمانية، لن يطلبوا سواها ولن يرغبوا بما عداها. وهكذا ينحصر همّهم بكل ما هو جسمانيّ أو له علاقة به.
لأجل ذلك، كان همّ التربية الأول اختبار اللذات المعنوية والروحية ومعايشتها وتذوّقها. ففيها درجات أعلى بكثير من اللذات الجسمانية، حتى لو كانت لذات الملوك والمشاهير.
وقد أشار الإمام زين العابدين عليه السلام إلى هذه الحقيقة في دعائه حين قال: "إِلَهِي مَنْ ذَا الَّذِي ذَاقَ‏ حَلَاوَةَ مَحَبَّتِكَ‏ فَرَامَ مِنْكَ بَدَلًا، وَمَنْ ذَا الَّذِي أَنِسَ بِقُرْبِكَ فَابْتَغَى عَنْكَ حِوَلًا". [1]
فكل من كانت له فرصة تذوّق الحلاوات واللذات الروحية الخالصة ستنبعث من أعماقه تلك الميول الفطرية الأصيلة ويكتسب بفضل ذلك الشعور بقيمة الحياة الإنسانية الراقية. هذه الحياة التي يدرك معها أهمية وجوده ويستشعر المغزى العميق من ورائها في هذه الدنيا. وهكذا تصبح اللذات الجسمانية بلا طعم، لأنّ النفس قد توجّهت إلى لذات أعلى وصارت مطلوبها. اللهم إلّا إذا امتزجت تلك اللذات الجسمانية بتلك اللذة الروحية. فحينها لا يستمتع بالطعام إلّا إذا تناوله مع ذي رحم أو صديق أو فقير. ولا يستمتع بالجنس إلّا إذا كان مع حبيب أو مستحق. وبعبارة أخرى، إذا كانت اللذة الروحية نابعة من ذكر الله وعبادته والتوجّه إليه والاتصال به، فإنّ كل ما ينتمي إليه أو ينبع من إرادته أو يكون محبوبًا عنده يصبح لذيذًا بالتّبع.. فالأنبياء والرسل يستلذّون بالطعام والشراب لأنّ الله تعالى طلب منهم ذلك: {يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحًا إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَليم‏}.[2]
ويستلذ المؤمن بشهوة الجنس، لأنّها جزء من تلك الرابطة المحبوبة في دين الله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "مِنْ سُنَّتِي‏ التَّزْوِيجُ،‏ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي".[3] ولو علم هذا المؤمن أنّ الزواج غير محبوب لأعرض عنه ولم يجد فيه أيّ لذة وحلاوة.
إنّ أحد أهم إنجازات التربية الإسلامية يكمن في تحقيق هذه التجربة بأصفى ما يمكن؛ وكلما تحقّق هذا الإنجاز مبكرًا كانت آثاره الطيبة أكثر دواميّة وقوة. لأنّ من طبيعة اللذات بشكل عام أن تترك آثارًا عميقة في النفس إذا تكرّرت على مدى الزمن. فمن أدمن على الدخانيّات والمسكرات مدة طويلة، صعب عليه الإقلاع عنها وتركها، حتى لو اختبر لذة روحية في حالة أو حالتين؛ بخلاف الشاب اليافع الذي يسهل عليه ذلك. فكيف إذا لم يدمن، بل لم يجرّب تلك اللذات القبيحة من الأساس!
لأنّ عالم اللذات الجسمانية اتّسع في عصرنا هذا وتعمّق وتشعّب وطال مراحل الطفولة إلى أيّامها الأولى. فإنّنا أصبحنا بأمسّ الحاجة إلى الأساليب والفنون التربوية التي تحقّق اللذات الروحية المعنوية في سنّ مبكر. ففي العصور القديمة، كان الأطفال يُتركون حتى يشتدّ عودهم ليبدأ تعليمهم وتأديبهم، ذلك لأنّهم لم يكونوا ليواجهوا الكثير من اللذات الجسمانية القبيحة أو المفرطة، ولأنّ طبيعة تلك الأزمنة كانت مقرونة بالفقر والندرة والحرمان، إلّا ما كان في قصور الملوك وأتباعهم.
أمّا اليوم، فبات أطفالنا أمام ما لا يُحصى من المغريات التي يمكن أن يختبروا لذّتها في حواسهم وأعضائهم بسرعة وسهولة. والأخطر من ذلك كلّه هو انفتاح أبواب الخيال الحسّي بصورة مرعبة. فمع كل لذّة جسمانية هناك آلاف الصور الخيالية المصاحبة لها، سواء على مستوى الطعام والشراب أو النشاط الجسماني أو الجنسي. وهذا ما يمكن أن نعدّه التحدي الأكبر للفطرة.
تتسابق اللذات الحسية الخيالية اليوم مع اللذات الفطرية كفرسي رهان. الأولى، مدعومة بما لا يُحصى من الصور التي تتوفّر عبر وسائل الإعلام والمدرسة والمجتمع والدعاية والعادات والتقاليد والأعراف. والثانية، تعاني من نقص حادّ في البيئة والتجربة والإمكانات والتأييد. لهذا، فإنّ اللذات الفطرية الراقية، وإن تحقّقت في بعض درجاتها، فإنّها تواجه ذلك الوهم الناشئ من تفوّق اللذات الخيالية عليها.
لقد ذكرنا أنّ الإنسان يندفع نحو اللذة الأكبر. وحين يتصوّر (أي يتخيل) أنّ في التجربة الحسية الفلانية لذّة أكبر ممّا تحقّقه تلك التجربة المعنوية الروحية، فإنّه سوف يعرض عنها وينصرف. ومشكلة عصرنا هذا، تكمن في هذا الوهم الذي يتشكّل من مجموع تلك العوامل، والذي يخيّل لنا أنّ في الذهاب إلى المطعم لذة أكبر من مطالعة الكتاب؛ أو أنّ في اللعبة الإلكترونية الفلانية لذة أكبر من الدعاء؛ أو أنّه في مراودة المرقص الليلي لذة أكبر من الصلاة.
وحين نأكل في المطعم الفلاني أو نلعب تلك اللعبة أو نرقص، لا نجد ما كنّا نتخيّله من لذة؛ ممّا يحبطنا ويزعجنا. لكنّ سيول الأوهام سرعان ما تنهمر علينا بوعود لذات أخرى. كمطعم آخر أو أكلة مختلفة أو لعبة أكثر تحدّيًا أو إضافة مشروب مع الرقص أو حبوب للّذة. وكلما اكتشفنا ضآلة ما جرّبناه، تأتينا وعود أخرى.
لقد استطاعت البيئة المادية العصرية أن تخلق من أوهام اللذات المادية ما لا يُحصى. فلو قضى الإنسان عمره كلّه وهو يختبر اللذات الجسمانية المعروضة والمتوافرة لانقضى عمره كلّه ولمّا ينتهي بعد.
هذا هو التهديد الأكبر للفطرة وللتربية الفطرية في زماننا. وما لم نتمكّن من مواجهته والقضاء عليه، فمن الصعب بل من المستحيل أن يبقى للفطرة حضور وفعالية في توجيه طاقات البشر نحو التعالي والرقيّ والكمال الواقعيّ.
فما العمل لأجل النجاح والفوز في هذه المعركة المصيرية؟

[1]. مناجاة المحبّين.

[2]. سورة المؤمنون، الآية 51.

[3]. مستدرك الوسائل، ج14، ص 152.