الشرط الأساس لنجاح الإصلاح

السيد عباس نورالدين

إنّ أي حركة إصلاحية لا تقوم لله وفي سبيل الله ومن أجل إعلاء كلمة الله، لن تحصل على الهداية والتسديد والمدد الإلهيّ؛ وإذا انتصرت، فإنّ انتصارها لن يزيد الأمور إلا تعقيدًا، والفساد فسادًا.
 قد يصل قادة هذه الحركة إلى السلطة والقدرة، ويتمكّنون بفضل ذلك من القضاء على المتسبّبين بالفساد في المجتمع، لكن عدم قيامهم لله يحرمهم من أهم ما يحتاجون إليه، لأجل تثبيت الصلاح والإصلاح. ولهذا، ابتُليت جميع النهضات الإصلاحية غير الإلهية، على مدى التاريخ، بعد انتصارها بمصيبة الانحراف والسقوط في مستنقع الفساد مجدّدًا. إنّه الشرط الأكبر لأي تحرّكٍ اجتماعيّ في العالم. لكن مجرّد القيام لله ـ أو كما يُقال حسن النوايا ـ لا يكفي للنجاح.
إنّ التحرّك الاجتماعي، كغيره من قضايا الحياة، يتطلّب الالتزام بقواعد العقل والحكمة ورعاية السنن الإلهية الحاكمة على الكون. وإحدى هذه السنن: أن يتّجه المصلحون نحو تحكيم العلم في حركتهم ونضالهم، وجعل ذلك غاية ووسيلة في الوقت نفسه. فبالعلم ينبغي أن يواجهوا ويتعاملوا مع مختلف مواقف النضال، وبالعلم يجب أن يحلّوا المشكلات ويطبّقوا برامج الصلاح.
قد ينهض من لا علم له ببرامج الإصلاح، ويثور على الظلم والفساد من شدّة المعاناة؛ وربما يسدّد ضربات موجعة للنظام الفاسد وعمّاله، لكنّه لن يوفّق في النهاية؛ ومن الممكن أن تؤدّي ضرباته تلك، إلى تقوية ذلك النظام، على قاعدة "إنّ الضربة التي لا تقتل عدوّك، تجعله أقوى".
وبمطالعة معمّقة في مجموع الحركات الرافضة والثائرة، نجد أنّ افتقادها للثقل العلميّ قد جعلها تخطو خطوات ناقصة أدّت إلى استغلال الظالمين للمواقف، وقيامهم بتوجيه ضربات موجعة لها، فضلًا عن استفادتهم من التجربة وتحصين وضعهم من خلال ابتكار وسائل وبرامج وخطط جديدة، لم تكن تخطر على بالهم لولا تلك الخطوات الناقصة.
إنّ المقصود بالتوجّه نحو تحكيم العلم في أي حركة إصلاحيّة، هو أن يكون الثائرون مصرّين على الاستفادة من العلم أينما كان، من أجل حل المشاكل والقضاء على الفساد وإرساء قواعد الصلاح. ولا يعني هذا أن يكونوا من البداية علماء وعارفين بكل برامج الإصلاح وأركانه؛ فقد يتّفق أن يكتشفوا من له علم ومعرفة أثناء نضالهم، أو يهديهم الله تعالى إلى ذلك إذا طلبوا الهداية، ويعلّمهم الله إن سألوه.
إنّ إعراض المصلحين وعدم اكتراثهم بأهل العلم، دليلٌ على فشلهم المستقبليّ، وهو أمرٌ يشي بأنّ قيامهم لم يكن لله تعالى من الأساس، أو أنّهم انحرفوا عنه في مقطعٍ ما.
والمقصود بالعلم هنا هو العلم الواصل من الله تعالى، لأنّه تعالى العالم الوحيد بما يصلح الناس والمجتمعات. وقد أوصل الله تعالى لنا هذا العلم عن طريق كتبه وأنبيائه. واجتمع بفضل ذلك تراثٌ غنيّ يمكن الاستفادة منه لأجل بناء الرؤية الإصلاحية المطلوبة وجمع الكلمة حولها.
 وقد قدّمت التجربة، التي تشكّلت في ظلّ مدرسة أهل البيت ومحبّتهم (عليهم السلام)، إنجازات مهمّة على هذا الصعيد، سواء على مستوى الشخصيات العلمية، أو على مستوى الحكمة اللازمة للتحرّك الاجتماعيّ. فإهمال مثل هذه الإنجازات والغض عنها، لا يحكي إلا عن جهالة واضحة من الذين يتواجدون في بيئتها وأوساطها.
أجل، ما زلنا بحاجة إلى العمل على توضيح وبيان برامج الإصلاح وتقديمها بصورةٍ حضارية وإعلامية واسعة، وهذا ما يقع على عاتق هذه الشخصيات العلمية أولًا؛ لكن تجاوز هذه الرؤية وعدم الرجوع إليها وترك السعي لتثبيت قيادة أصحابها، لن يجلب للمصلحين والداعين للإصلاح سوى الخيبة والفشل.
 فالأمر الأساسيّ، الذي تحتاج إليه الحركات الإصلاحية هو اجتماع كلمة الناس معها، وتأييد الجماهير لها، والتفاف الشعوب حولها؛ لأنّ الشعوب تمثّل القوّة التنفيذية الأساسية والقدرة التي لا يمكن قهرها.. ولا صلاح ولا إصلاح من دون وحدة الكلمة وقوّة الشعب. ومهما كانت النية للإصلاح صادقةً، ومع ذلك انجرّ أداء أصحابها إلى تشتيت الكلمة وتفريق الناس، فإنّ ذلك لن يجلب أي نجاح حقيقيّ.
ولكي تتحقّق الوحدة الجماهيرية وتثبت بوجه أعاصير التحدّيات، التي يفرضها الظالمون والمفسدون، يجب البناء على العناصر الثقافية المشتركة التي تجمع المضطهدين والمظلومين. فهذه العناصر والقيم هي اللحام الذي يجمع النسيج ويلحم عرى الوحدة ويشدّ أواصرها. وغالبًا ما تكون هذه العناصر مبنيّة من القيم، التي أضحت مقدّسة ومعظّمة بين الناس، وتحوز على احترامٍ خاصّ عندهم.
وفي بيئة محبّي أهل البيت (عليهم السلام)، فإنّ الانتماء لهم ولمدرستهم وعلومهم ونهجهم هو أغلى وأثمن شيء. وكل من يدعو إليهم ويربط الأذهان والقلوب بهم، ستكون له الدعوة المسموعة.
إنّ العلماء الذين تمسّكوا بمعارف أهل بيت النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وسعوا لبيان أحكام الإسلام من خلالها، قد حازوا على المرتبة العليا من هذا الانتماء. وقد أصبح هذا الأمر مشهودًا للقاصي والداني. لهذا، فإنّ الذكيّ النبيه، هو الذي ينطلق منهم ويتّبعهم، ويعمل على ترسيخ حضورهم الإرشاديّ والقياديّ. إنّه ذكي لأنّه يعرف الأمر الذي يوحّد الناس ويجمع كلمتهم؛ وهو حكيم لأنّه يدرك أنّ إصلاح المجتمع لا يكون بمحض القضاء على الظلم والفساد، بل يتطلّب مشروعًا واضحًا ودقيقًا وتفصيليًّا يتطرّق لكل مفاصل الحياة وموارد الابتلاء. وهذا ما يعمل العلماء على استخراجه واستنباطه من التراث الغنيّ لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
يجب أن نرسّخ في مجتمعنا مبدأ الرجوع إلى العالم الفقيه الذي تجتمع فيه شروط الحكمة والتدبير والشجاعة والقيادة؛ وهذا ما يتطلّب في أحيانٍ كثيرة، مطالبة كل صوت رافض للظلم وداعٍ لمحاربة الفساد، بأن يلتزم برأي المرجعية الدينية الواقعية، حتى لو أدّى ذلك إلى إسكاته في بعض الأحيان؛ لأنّ فساد المزايدة على هذه المرجعية قد لا يقل عن فساد الظالمين أنفسهم؛ إلا أنّ الإسكات وحده لن يحلّ المشكلة، لأنّه ما لم يصدح الصوت العالي لبرامج الدين في كلّ أحياء المجتمع فسوف يبقى للمظلوم الحقّ في أن يئن ويتألّم ويصرخ وجعًا ممّا يصيبه.