الحياة الجميلة للإنسان المؤمن

كيف نملأ حياتنا بالفرح والبهجة؟

السيد عباس نورالدين

لكلّ إنسان آمن بسعة رحمة الله، حياة صاخبة مذهلة. فهو يعتقد بأنّ الله تعالى قد أعدّ له كل خير وكمال، وهو يفيضه على كلّ الكائنات دون حظرٍ أو انقطاع. فالحياة بالنسبة إليه مليئة بالفرص، ولا شيء يجعلها بهيجة مفرحة مثل اغتنام هذه الفرص والاستحواذ عليها.
حين يخبو الإيمان ويضعف حضوره في النفس، تصبح الحياة في أعيننا محدودة، تتكاثر فيها الظّلمات وتضيق الأرض بما رحُبت، فنعيش الخوف والقلق من الآتي، إلى أن ينقضي العمر وقد أضعنا ما أعدّ الله لنا من كنوز الحياة ومباهجها.
إنّ الحياة السطحيّة السخيفة المحفوفة باللهو واللعب وتضييع الأوقات ليست سوى نتيجة للضيق الذي نراه والمحدودية التي نتصوّرها فيها. وقد أثبتت التجارب وجود علاقة وثيقة بين الشعور بالقلق والخوف من الفقر، وبين الاندفاع نحو الملاهي، حتى وإن كانت ظروفنا المادّيّة والماليّة جيّدة. فكأنّ الإنسان في هذه الحالة يفرّ من شبح يقضّ مضجعه.
أمّا الاندفاع نحو المكارم والفضائل والفوائد فهو وليد راحة البال تجاه المعيشة والرزق، وإن كان الوضع المادّي صعبًا أو كانت القدرات الماليّة محدودة. فمن خلا من همّ المعاش اتّجه نحو معالي الأمور ولم تشغله سفاسفها.
ولا شيء يمكن أن يعبّر عن المكارم والفضائل مثل العلم والمعرفة، فهما زينة النفس البشريّة وبهما تسمو في مراتب الفضيلة وتحلّق نحو الآفاق الواسعة للحياة الكريمة. وفي ظلّ المعرفة، يدرك الإنسان جمال الحياة ووضاعة همّ المعاش وحقارة الاهتمام بالمادّيّات فوق الحاجة والكفاف. فمن تزيّن بالعلم نبذ زينة الدنيا، فكيف يكون من أهل اللهو واللغو!
إنّ تجربة لذّة العلم والاكتشاف تُعدّ من اللذات العليا، التي تصبح عندها لذّات الجسد وضيعة تافهة، إلّا إذا اقترنت بلذّات معنويّة خاصّة؛ مثل أن تأكل مع إخوانك أو تقارب من تحبّ أو تنام بعد تعب العطاء والعبادة. لكن لا شيء يمكن أن يضاهي حياة المعرفة أبدًا. فإن اخترت هذا النمط من العيش، تكون قد سلكت طريق الحياة الصاخبة المفعمة بالحبور والسرور والأمل والرجاء والرحمة، التي تزداد كل يوم سعةً وامتدادًا. ومهما تلبّدت عليك غيوم الهموم، فسوف يكون لك متّسعٌ من الوقت لتبعثرها وتبدّدها بواسطة رياح العلم العاصف. وحين تتذكّر أنّ لحياتك معنًى أرقى وأعلى بكثير من هذه الحياة المادّيّة التي تمتزج بالخسارة والفقدان والزوال، فلا يمكن لأي شيء بعدها أن يستخرج من قلبك تلك البهجة المتجذّرة. فقد أدركت حياة الآخرة واتّصلت بعالمها، وما هو إلا وقت قصير كساعة أو نهار حتى تلحق وتحصد ما زرعت في الحياة الدنيا.
أجل، إنّ حياة العلم هي الحياة الأبدية، ولهذا كانت مجالسه رياض الجنّة، كما قال من عرج فدنا ثمّ تدلّى وكان قاب قوسين أو أدنى (صلى الله عليه وآله). وفي هذه الرياض تكون الكتب أشجارها، كما جاء في حديث شريف آخر: "الْكُتُبُ بَسَاتِينُ الْعُلَمَاء".[1]
فتعال إلى هذا العالم الجميل المشرق بالأمل والمفعم بالحبور، واركب سفينته التي تبحر بك في أرجائه، حتى تنسى هموم الدنيا الفانية ومتاعبها المثقلة وغمومها المحبطة.. تعال إلى حياة تسمو بك فوق السخافات والسطحيات، وتمنحك المعنى العميق الرائع للشيء الذي خلقك الله لأجله..
تعال وكن من الذين يسافرون نحو عوالم الأنوار، التي تغدو عندها شمس الدنيا ككرةٍ سوداء، واختبر بهجةً لن تفكّر بعدها بالعودة إلى الوراء حيث التعاسة والانقباض والحزن.
للمؤمن الحقيقيّ أوقات في حياته، لا تشبهها أوقات أهل اللغو والعبث، في جمالها وانطلاقها نحو الآفاق اللامتناهية، حيث يتّصل المحدود بالمطلق والفاني بالباقي والميّت بالحي والزائل بالسرمديّ. وهي الأوقات التي يتصفّح فيها كتابًا يستلّه من مكتبته ويرتع على ضفاف أوراقه ويسافر على متن كلماته.
قد يخلو بيت المؤمن من بعض تجهيزات الحياة العصريّة أو أثاثها، وقد يمتنع عن نرجيلة السهرات العابثة وسمراتها، لكنّه لن يخلو أبدًا من بقعة متّصلة بعالم المعرفة الكبير الذي هو تلك الزاوية المضيئة المليئة بالكتب والرفوف المنتظرة. وسرعان ما تتفرّع غصون هذه الشجرة الوارفة فتتمدّد لتملأ كل زوايا بيته بثمارها ومواليدها. فالبيت الحقيقيّ في الدنيا هو بيت العلم والمعرفة، أمّا زاده فيها فليس سوى الكفاف الذي يعين على قضاء المزيد من الوقت في بساتين معارفها. وحين يخرج من بيته مجاهدًا في سبيل الله، فإنّ المؤمن يرجع إليه ليقطف ثمار جهاده وعطائه وتعبه من بساتين الكتب التي أعدّها الله له في تضحيات العلماء وجهود الحكماء عبر قرون الزمان.
مكتبة المؤمن هي هويّته الواقعية، لأنّها محل صباغة الذات وتكميلها. وبالكتب يعرج المؤمن في مراتب كماله. وهي محطّة اتّصاله بعوالم الغيب ومركز استقبال فيوضات السماء. يلجأ إليها لأجل أن يثبت أنّ وجوده في هذا العالم الأرضيّ ليس سوى بعثة فضائيّة سرعان ما تعود إلى وطنها الحقيقيّ.
مكتبتي هي ملاذي وبواسطتها أبثّ في بيتي ذبذبات المعاني الجميلة وترانيم الحياة الأبديّة وألحان القداسة وأسرار الوجود.

[1]. عيون الحكم والمواعظ، ص 19.