طريق النجاح في العلوم الطبيعيّة

ما هي المهارات اللازمة لإتقان العلوم الأساسيّة؟

السيد عباس نورالدين

إنّ الهدف الأساسيّ لتدريس العلوم الأساسيّة والطبيعيّة في المدارس هو إعداد الطالب للتخصّص الجامعيّ، سواء في مجال الرياضيّات أو الفيزياء أو الكيمياء، وفي فروع هذه العلوم التي تتكثّر كالفطريّات، أو في مجال الطب والهندسة بفروعها كافّة.
قد يكون لدراسة الظّواهر الحياتيّة والكونيّة آثار مباشرة على سلوك الإنسان ونظرته إلى الحياة والمصير، لكن مثل هذه الآثار غير منظورة في المناهج المدرسيّة الشائعة؛ ولو كانت كذلك، فإنّ طريقة مقاربتها الحاليّة غير مجدية ولا تحقّق الجوانب الإيجابيّة من تلك الآثار المتوقّعة.
لهذا، يجب التركيز في البحث الحالي على تقويم هذه المناهج من حيثيّة خدمتها للهدف الأساسيّ الحاليّ، سواء على صعيد القدرات التحليليّة والمهارات المعرفيّة أو على صعيد بناء المعارف التصوّريّة المناسبة واللازمة للنجاح في تلك الاختصاصات الجامعيّة.
ينبغي أن نحدّد جميع المعارف التي ينالها التلميذ مع نهاية رحلته المدرسيّة ونحصرها (وهو أمرٌ ممكنٌ حتمًا)، ومن ثمّ طرح الأسئلة التالية حول مدى ضرورة توزيعها على الصفوف والمراحل الدراسيّة منذ الابتدائيّة وحتى الثانوية العامّة. ومن هذه الأسئلة سؤال يتعلّق بإمكانيّة تحصيلها دون اعتماد هذه المنهجيّة والمقاربة الشائعة في مدارس اليوم، خصوصًا مع توافر وسائل الإنترنت وسهولة الوصول إلى المعارف والمعلومات.
إنّ القسم المتعلّق بالمعارف التصوّريّة لهذه العلوم كان ضرورة مدرسيّة في أزمنة، كان مجرّد الوصول إلى المصدر يُعدّ أمرًا غاية في الصعوبة؛ وهذا بخلاف ما نشهده اليوم؛ ومنذ عدّة عقود مع ثورة المعلوماتيّة. فما يمكن للتلميذ أن يتعرّف إليه عبر وسائل الإعلام والإنترنت أصبح يفوق بأضعاف ما هو مُدرج في الكتب المدرسيّة أو ما يمكن أن يُعرض عليه في المدرسة. وإذا أضفنا إلى عنصر التوافر هذا، عنصر الجاذبية وأسلوب العرض، سنعرف جيّدًا لماذا تصبح المناهج المدرسيّة أكثر تسبّبًا بالملل؛ الأمر الذي يُعدّ عدوّ التطوّر العلميّ المدرسيّ.
لم تعد المدرسة مكانًا جذّابًا ومناسبًا لتقديم المعارف التصوّريّة في الرّياضيّات والفيزياء والكيمياء، ولا يبدو أنّها قادرة على التفوّق على الوسائط غير المدرسيّة في هذا المجال. بل لا حاجة لتدخل في هذه المنافسة غير المجدية والمهدرة للأوقات والجهود.
فإن كان للمدرسة دورٌ أساسيّ هنا، فهو ما يتمثّل في تنمية المهارات التحليليّة والذهنيّة بشأن ظواهر الكون والطبيعة المختلفة. وهذا ما يأخذنا إلى ضرورة مناقشة الحاجة إلى كل هذه الجهود والمراحل والأوقات التي تفرضها المناهج التقليديّة في تدريس وتعليم هذه المهارات، والتي ـ ولا شك ـ يضيع أكثرها بسبب ضعف التقنيّات والأساليب والبيئة وإهمال الجوانب التربويّة الحسّاسة.
إنّنا نؤمن بإمكانيّة تنمية المهارات الرياضيّة اللازمة للتخصّص الجامعيّ في مدّة لا تتجاوز عُشر المدّة التي تتطلّبها المناهج المدرسيّة الشائعة. وينطبق هذا الأمر إلى حدٍّ كبير على العلوم الفيزيائيّة والكيميائيّة. وأغلب الظن أنّ للإصرار على فرض تدريس هذه العلوم في المدرسة على هذا النحو، أسبابًا ثقافيّة وعقائديّة غير خافية. ويرجع جُلّها إلى اعتناق الأجهزة الحكوميّة والوزارات التعليميّة للعقيدة العلمانيّة التي ترى في هذه العلوم العلم الحقيقيّ والحل الوحيد لمشاكل العالم والأداة الأولى لتحقيق الازدهار والتفوّق و...
العلمانيّة ديانة انطلقت من أوروبا عُقيب الثورة الفرنسيّة، وآمنت بأنّ العلوم الطبيعيّة هي العلوم الوحيدة الصحيحة واللازمة لبناء الحضارة والإنسان ومواجهة الدين (المسيحيّة التقليديّة خصوصًا). وما زالت هذه العقيدة مهيمنة على عقليّة الإنسان الغربيّ، الذي فرض علينا بواسطة استعماره مناهجه ومدارسه وأساليبه ورؤيته الكونيّة. فما يُرجى أن يتلقّاه طلّاب المدرسة، بالنسبة لهؤلاء العلمانيّين، هو شيء أكبر من المعارف والقدرات التحليليّة. ويزداد رجاؤهم ويشتدّ أملهم حين تقوم المدارس بإدخال مادّة دراسيّة على منهاجها تسمّيها "الدين"، ليتحوّل الدّين في أحسن الحالات إلى أحد العلوم الإنسانيّة بنظر الطلّاب. وليصبح في أسوأ الحالات (كما هو الشائع) سببًا لنفور الطلّاب من الدين، بسبب الخطأ الفادح في طريقة عرضه وتناوله ووضعه في موقعيّة مقابلة "للعلم".
لو كان أصحاب القرار في المدارس يمتلكون الجرأة الكافية والحرّيّة الفكريّة اللازمة للتعليم الحقيقيّ، لطرحوا هذه القضيّة على بساط البحث وقاموا بمعالجتها بروحيّة علميّة تربويّة صحيحة. فإنّ حصر المدّة اللازمة لتنمية المهارات التحليليّة الرياضيّة والكيميائيّة والفيزيائيّة في سنة واحدة (أو ما يقارب ذلك) سيكون أكثر جدوائيّة وتأثيرًا في تحصيل المقدّمات المذكورة للنجاح في الاختصاصات الجامعيّة.
إنّ نظامنا التعليميّ المترهّل بحاجة ماسّة إلى إعداد مناهج مدرسيّة تساعد الطالب على تنمية وتقوية مهاراته التحليليّة المرتبطة بتلك العلوم في مدّة وجيزة، وقبل الدخول إلى الجامعة، بدل إشغاله بهذه المهارات على مدى إحدى عشرة سنة مع نتائج وثمار محدودة جدًّا وتضييع كبير لوقته وعمره الثمين.
لقد آن الأوان ليتعرّف المسؤولون عن حقل التّعليم المدرسي، على الحاجات المعرفيّة والذهنيّة والنفسيّة والمعنويّة اللازمة لمرحلة ما قبل العمل وتحمّل المسؤوليّة الاجتماعيّة (وهو التعريف الدقيق لماهيّة المدرسة)، بدل أن يشغلوا الطلّاب بالكثير من الأمور التي يمكن تحصيلها في وقتٍ قصير وجهدٍ قليل.
هل يمكنك أن تتصوّر منهاجًا في الرياضيّات يؤهّلك للنجاح في الهندسة ولا تحتاج في دراسته إلّا إلى تسعة أشهر. وهل يمكنك أن تتصوّر منهاجًا مماثلًا في الفيزياء والكيمياء؟
حسنًا، أنا يمكنني ذلك، لأنّني درستُ الهندسة، وكنت قبلها مدرّسًا ناشطًا للفيزياء والكيمياء والرياضيات للمراحل الثانوية.