أهمية حضور السينما في المدارس

أي دور تربويّ وتعليمي يمكن أن يتحقّق هنا؟

السيد عباس نورالدين

إنّ قدرة السينما على إمتاع حواس وخيالات وعقول الناس وحتى أرواحهم، جعلها تستحوذ على ثروات وإمكانات هائلة؛ الأمر الذي مكّنها من الاتّصال القويّ والواسع بالتراث المعرفيّ البشريّ والهيمنة على العديد من مجالات إنتاجه. فالسينما تسير وتتطوّر من دون عقبات وموانع تحول دون تسخير واستعمال أي نظرية علمية أو أطروحة اجتماعية أو عملٍ أدبيّ أو اكتشاف في أي حقل من حقول المعرفة؛ وفي الوقت نفسه، نجدها مواكبة للتيّارات والأحداث والتحوّلات الاجتماعية والسياسية والاقتصاديّة، وتستعرض آخر وأحدث ما فيها، ضمن قوالبها المشوّقة الشديدة التأثير.
إنّ السينما ليست مجرّد وسيلة تسلية وإمتاع، بل هي عالمٌ معرفيّ وثقافيّ ونفسيّ شديد الوسع والتعقيد؛ وسواء شئنا أو أبينا، فإنّ هذا الفن، الذي يتجلّى بالدرجة الأولى في صناعة الأفلام الطويلة، هو أحد أهم صنّاع الثقافة والأفكار والرأي العام والقيم في المجتمعات البشرية كافّة.
ولا يخفى أنّ هذا الفن ـ كغيره من الفنون التي نمت في أحضان الحضارة الغربية ـ لم يتجاوز الأزمة الكبرى التي يعيشها النتاج الفكريّ والثقافيّ الإنسانيّ المعاصر، وخصوصًا في المجتمعات النابضة بالتفاعل الاجتماعيّ والفكريّ؛ وهي مشكلة العبثيّة والضلالة وفقدان الالتزام الأخلاقيّ تجاه الإنسانية. لهذا، فإنّنا لا نتوقّع من التيّار السينمائيّ الغالب أن يكون عاملًا مساعدًا على تحسين الحياة وحلّ المشكلات، التي تعصف بالعالم كلّه، وإن كانت أداة قويّة على مستوى تصوير تلك المشكلات وبلورتها.
 إنّ أحد التطوّرات الكبرى، التي حصلت في السينما في العقود الأخيرة، كان ما يرتبط بالتعمّق في الشخصية الإنسانية وحالاتها الروحية وخصالها ونزعاتها؛ الأمر الذي وفّر فرصة مهمّة للإطلالة على هذا العالم الكبير ودراسته وتحليله واستخلاص الكثير من الدروس والعبر منه. وقد أمّن التلاقي العجيب بين الكثير من معطيات علم النفس الحديث والإنتاج السينمائي مثل هذه الفرصة المميّزة، كما يمكن أن يحصل على صعيد العلوم والبيئة والكون وغيرها من المجالات.
إنّ دراسة الأعمال السينمائية المميّزة يمكن أن تساهم بصورة كبيرة في تحقيق الأهداف التالية:

1. تطوير الفكر من خلال معالجة القضايا الكبرى في الحياة
2. الغوص في أعماق النفس الإنسانية واكتشاف الذات ومعرفة النفس
3. المناعة الكبيرة تجاه كل مفسدات السينما ومخاطرها
4. تنمية مهارات البيان بصورة مذهلة
5. معرفة العالم وثقافات الشعوب وأوضاعها

فللسينما دورٌ كبير في عرض القضايا الكبرى ومعالجتها (بمعزل عن كيفية هذه المعالجة ونجاعتها)، وتوفّر فرصة التفكير العميق والبنّاء فيها. وهي إحدى أكبر الوسائل لمعرفة النفس البشرية في أطوارها وأحوالها، وفي قبحها وحسنها (وإن كانت تغلّب الجانب القبيح للبشر). وحين نتمكّن من الهيمنة عليها، بمعرفة الخبايا والأسرار والخلفيات والمراحل التي تقف وراءها، فإنّنا سنصبح منيعين تجاه تأثيراتها السلبية والهدّامة التي تطال الروح والنفس والعقل والخيال؛ فنخرج بذلك منتصرين في غزواتها الناعمة؛ وقد نمتلك بفضل ذلك مجموعة من المهارات والقدرات المميزة، التي تساعدنا على لعب دورٍ مؤثّرٍ في مجال التواصل البنّاء مع الآخرين من شعوب ومجتمعات وثقافات.
لأجل ذلك، يجب التفكير بجدية في جعل السينما ـ كظاهرة ثقافية إعلامية معنوية وكنتاج معرفيّ وفكريّ ـ مادّة أساسية في المدرسة. ومن شأن ذلك أن يكون رافعة كبيرة للتأثير والبناء والإعداد: العقليّ والروحيّ والحسيّ والخياليّ، ممّا يساهم في التكامل السريع والكبير والشامل.
إنّ تحليل ونقد النتاج السينمائي قديمٌ، قدم السينما ذاتها. وهو صناعة كبيرة توفّر لنا مادّة وافرة، يمكن أن نستخرج منها الكثير من الموضوعات المتناسبة مع تلك الأهداف؛ ومن ثمّ وضعها في إطارٍ منهجيّ تعليميّ مشوّق.
لا يخفى على أي خبير تعليميّ تربويّ مدى التأثير الجليّ لمعالجة القصص والروايات في المدرسة؛ لكنّ تعقيد مشكلة المطالعة وصعوبة التعامل معها من جهة، والكم القليل الذي يمكن فرضه على التلامذة بسبب وضع المناهج الحالية من جهةٍ أخرى، وغيرها من المشكلات الواقعية من جهةٍ ثالثة، قلّل كثيرًا من الاستفادة من هذا التراث والمجال المعرفيّ؛ وهذا ما لا نواجهه على صعيد استعراض النتاج السينمائيّ والاستفادة منه.
إنّ الإصرار على الكتاب والمطالعة يجب أن يبقى أولوية تعليمية (لأسباب تعرّضنا لها مرّات عدّة في مقالات وكتابات مختلفة)؛ لكن هذا التعصّب للكتاب، لا ينبغي أن يعمي عيوننا عن إحدى الطرق الرائعة والمؤثّرة في مجال بناء الوعي والعمق الروحيّ والفكريّ والمهارات الحسية والبيانية والخيالية المختلفة.